تسمية 1

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الدقة والإحكام في قوانين الفيزياء هي سبب وجود الحياة




يبدو أن وجود كون له القدرة على إيواء الحياة لهو في الحقيقة أمر قليل الاحتمال جدًا . وفيما يفترض فإنه ليس من سبب يمنع من أنه يمكن لقوانين الفيزياء وثوابت الطبيعة أن تكون مختلفة اختلافًا هينًا عما هي عليه . وكمثل ، فإن الجاذبية يمكن أن تكون أقوى قليلاً مما هي عليه ، أو أن القوى النووية القوية والضعيفة يمكن فيما يفترض أن تكون أضعف قليلاً . ومن الظاهر أنه ليس من سبب أساسي يمنع فيما ينبغي أن تكون شحنة الالكترون أكبر قليلاً مما هي عليه ، أو أن تكون كتلة البروتون أقل قليلاً . على أنه لو تم وقوع أي من هذه التغييرات ، فيكاد يكون من المؤكد أنه سينتج عن ذلك كون لا حياة فيه . وفيما يبدو ، فإنه ما لم يكن هناك مبدأ غامض يعمل هنا ، فإن الحياة ستكون نتيجة سلسلة من مصادفات استثنائية .

ونفس وجود العناصر التي تتأسس عليها الحياة ، مثل الكربون والأوكسجين ، هو فيما يبدو يعتمد على ما لا يمكن وصفه إلا بأنه ضربة حظ غير متوقعة . فهذه العناصر لم يكن يمكن قط تخليقها بكميات يعتد بها لو لم تكن نوى ذرات الكربون والبريليوم تحوي بالضبط المستويات المناسبة من الطاقة - وهو أمر من الظاهر أنه يتم مصادفة . ونواة الكربون التي تتكون من ست بروتونات وست نيوترونات ، يمكن تركيبها من ثلاث نوى للهليوم (التي لكل منها بروتونان ونيوترونان) . على أن هذه العملية ما كانت لتحدث كثيرًا جدًا لو لم يكن يوجد شكل غير مستقر من البريليوم (له أربعة بروتونات وأربعة نيوترونات) وله بالضبط ما هو مناسب من الخواص .

وحسب ميكانيكا الكم ، فإن الذرة أو نواة الذرة لا يمكن أن تحوز أي قدر اعتباطي من الطاقة . قالذرات والنوى كلاهما لهما مستويات طاقة عديدة مختلفة . وهي لا يمكنها أن تمتص الطاقة أو تبثها بأي قدر اعتباطي ، وإنما لا بد وأن تخضع في ذلك لوثبات كميّة تذهب بها من أحد مستويات الطاقة المسموح به إلى الآخر . ومستويات الطاقة تلعب دورًا مهمًا في التفاعلات النووية . وعلى وجه التحديد ، فإن اتحاد نواتي هليوم معًا ليكونا نواة بريليوم سيكون من الأمور النادرة جدًا ما لم يكن للبريليوم مستوى الطاقة المناسب بالضبط . والواقع أن وجود هذا المستوى يضفي على نواتي الهليوم ألفة Affinity فيما بينهما ما كانتا تحوزانها بغير ذلك .

ونواة الكربون يبدو أن لها أيضًا مستوى الطاقة المناسب بالضبط لما يحتاجه دعم تكوين الكربون من الهليوم والبريليوم . وإذا لم يوجد هذا المستوى ، فسيظل تكوين الكربون أمرًا ممكنًا ، ولكن ليس بكميات يعتد بها . ولو كانت كمية الكربون في الكون تقل كثيرًا عما هو موجود ، لن يكون من الممكن أيضًا وجود قدر كبير من الأوكسجين . فالأوكسجين الذي يتكون من ثمانية بروتونات وثمانية نيوترونات يتم تركيبه بأن تتمدد نوى الكربون والهليوم معًا .

وعند هذه النقطة ، قد يعترض أحد المتشككين بأن الحجج التي من هذا النوع لا تخبرنا بأي شيء عن احتمالات الحياة ، ولكنها فحسب تبرهن على مدى تعصبنا الشوفيني للكائن البشري . وقد يتساءل هذا المتشكك "كيف ، أو ينبغي" أن نفترض أن الكائنات الحية يجب أن تصنع من الكربون والأوكسجين ؟ من المؤكد أنه يمكن تصور وجود أنواع أخرى من الحياة .
وهذه المحاجة تطرح رأيًا له وجاهته . فنحن لا يمكن أن نكون واثقين من أنه لو كان هناك وجود لحياة في مكان آخر من الكون فإنها يجب بالضرورة أن تكون مشابهة لنا . ورغم كل ما نعرف ، فإنه يمكن أن توجد حياة من نوع ما على سطح النجوم الحمراء العملاقة . على أن تحليل تخليق الكربون والأوكسجين ليس إلا الخطوة الأولى في المحاجة التي تدعو للبرهنة على قلة احتمال الحياة . فبعد أن يتضح أن الحياة التي تتأسس على الكربون هي أمر قليل الاحتمال ، سيكون من السهل مواصلة تطوير الحجج التي تبرهن فيما يبدو على قلة احتمال وجود حياة من أي نوع .

وفيما يحتمل ، فإن من المعقول أن نفترض أن الحياة (من أي نوع) تعتمد على وجود النجوم . فبدون النجوم ، لن يكون هناك ضوء ولا حرارة ، وأغلب الاحتمال أنه لن يكون هناك سريان للطاقة من مكان لآخر على نحو له أهميته . وبالإضافة فإنه يكاد يكون من المؤكد أن الحياة تعتمد على وجود ذرات وعناصر غير الهيدروجين . ولن يكون من السهل تصور كائنات حية في كون لا يحوي شيئًا سوى غاز الهيدروجين ، أو في كون ليس مما يحدث فيه كثيرًا أن تتحد البروتونات والنيوترونات والإليكترونات لتكون المادة .ومع كل ، فإن معظم الأكوان التي يمكن تصورها لا يوجد فيها نجوم ولا ذرات . وكمثل ، فإن الكتل التي للنيوترونات والبروتونات في كوننا هي قريبة جدًا إحداها من الأخرى ،

حيث النيوترون أثقل بحوالي 1ر0 في المائة . ولو أن هذا الاختلاف بالكتلة كان أصغر هونًا فحسب ، لما أمكن أن تضمحل النيوترونات إلى بروتونات أثناء المراحل المبكرة من الانفجار الكبير . وكنتيجة لذلك كان سيوجد لدينا كون من نوع مختلف بالكلية ، كون تكون فيه الأعداد النسبية للنيوترونات والبروتونات جد مختلفة . ولو كانت البروتونات هي الأثقل هونًا ، لأمكن أن تضمحل البروتونات إلى نيوترونات وبوزيترونات . وكنتيجة لذلك كان سيوجد في الكون الآن عدد قليل من البروتونات أو أنها ما كانت لتوجد . وفيما يحتمل ، فإنه لن يكون هناك أيضًا عدد كبير من الإلكترونات ، ذلك أن الإلكترونات هي والبوزيترونات سيقوم كل منهما بإبادة الآخر بالتبادل عندما يلتقي أحدهما بالآخر . وفي كون كهذا ، سوف يمتلئ الفضاء بالنيوترونات ، أما ما عدا ذلك من جسيمات فستكون قليلة .

ولو حدثت أهون التغيرات في شدة أي من القوى الأربع ، ستظهر النتائج في كوارث مماثلة تقريبًا . وكمثل ، لو أن القوة النووية القوية كان أضعف بخمسة في المائة فحسب ، فإن الديتريوم لن يكون له وجود ، حيث أن القوة القوية لن تكون بالشدة الكافية لأن تبقى النيوترونات والبروتونات ممسوكة معًا . وتكوين الديتريوم هو خطوة واحدة في سلسلة التفاعلات التي تحول بها النجوم الهيدروجين إلى هيليوم . وإذا أصبح تكوين الديتريوم من غير الممكن فإن النجوم لن تتمكن من أن تسطع .

ولو كانت القوة النووية القوية أشد مما هي عليه بنسبة مئوية قليلة ، فإن النتائج ستكون حتى أسوأ (على الأقل من وجهة نظرنا نحن) . ففي هذه الحالة سيكون من الممكن تخليق جسيمات تدعى ثنائي البروتون ، تتكون من بروتونين مربوطين معًا . وثنائي البروتون لا يوجد في كوننا لأن القوة القوية ليست بالشدة الكافية تمامًا لتغلب على التنافر الكهربائي بين البروتونين المشحونين بشحنة موجبة . ولو حدث ووجدت بالفعل ثنائيات البروتون ، فإن النجوم لن تحرق الهيدروجين بمعدل بطيء ثابت كما تفعل في كوننا . وعلى العكس من ذلك ، فإن تركيزات غاز الهيدروجين سوف تؤدي إلى انفجارات نووية كارثية ، وسوف تُنفث النجوم ممزقة قبل أن تستطيع أن تتكون . وبالإضافة ، فحيث أن الهيدروجين يمكن أن يدخل بسهولة بالغة في تفاعلات نووية ، فإن الكون كان سيتكون كله تقريبًا من الهيليوم .

ولو كان هناك أهون اختلاف في شدة القوى النووية الضعيفة أو الكهرومغناطيسية أو الجذبوية فإن النتيجة ستكون أيضًا كونًا غير مواتٍ للحياة . وبعض الأكوان الممكنة كهذا لا يوجد فيها ذرات . والبعض الآخر سيمتلئ فضاؤه بالنيوترونات ، أو بلا شيئ سوى غاز الهيدروجين أو الهليوم . بل وستكون هناك أكوان أخرى لا تتشكل فيها نجوم ، أو أن النجوم ستحترق سريعًا بحيث لا يكون هناك قط أية فرصة لأن تنشأ الحياة . بل ويمكن أن نتصور أكوانًا غير مواتية للحياة لأن لها خواص بعدية غير مناسبة . وكمثل ، فلو كان للمكان بعدان فقط ، فإن خلق الحياة يكون في أقل ما يقال مشكلة . فلن يكون من الممكن مثلاً أن يحوز الحيوان جهازًا هضميًا يجري من أحد أطرافه للآخر ، فممر له هذا المسار سوف يشق الحيوان في جزئين . ولو كان للمكان أربعة أبعاد ، لن يمكن أن توجد مدارات مستقرة للكواكب . ومن الممكن البرهنة رياضيًا على أنه لو تكونت بالفعل كواكب في فضاء كهذا فإنها سوف تندفع لولبيًا لداخل الشمس .


حافة العلم - عبور الحد من الفيزياء إلى الميتافيزيقا
ريتشارد موريس - ترجمة د. مصطفى إبراهيم فهمي
منشورات المجمع الثقافي - أبو ظبي - الإمارات العربية المتحدة
ص217-220

ليست هناك تعليقات :

تسمية 2

تسمية 3

تسمية 4